سورة القصص - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش، فعظموا النعمة، وقابلوها بالأشر والبطر، فدمرهم الله وخرب ديارهم. و{معيشتها} منصوب على التمييز، على مذهب الكوفيين؛ أو مشبه بالمفعول، على مذهب بعضهم؛ أو مفعول به على تضمين {بطرت} معنى فعل متعد، أي خسرت معيشتها، على مذهب أكثر البصريين؛ أو على إسقاط في، أي في معيشتها، على مذهب الأخفش؛ أو على الظرف، على تقدير أيام معيشتها، كقولك: جئت خفوق النجم، على قول الزجاج. {فتلك مساكنهم}: أشار إليها، أي ترونها خراباً، تمرون عليها كحجر ثمود، هلكوا وفنوا، وتقدم ذكر المساكن. و{تسكن}، فاحتمل أن يكون الاستثناء في قوله: {إلا قليلاً} من المساكن، أي إلا قليلاً منها سكن، واحتمل أن يكون من المصدر المفهوم من قوله: {لم تسكن}: أي إلاّ سكنى قليلاً، أي لم يسكنها إلاّ المسافر ومار الطريق. {وكنا نحن الوارثين}: أي لتلك المساكن وغيرها، كقوله: {إنا نحن نرث الأرض} خلت من ساكنيها فخربت.
تتخلف الآثار عن أصحابها *** حيناً ويدركها الفناء فتتبع
والظاهر أن القرى عامة في القرى التي هلكت، فالمعنى أنه تعالى لا يهلكها في كل وقت. حتى يبعث في أم تلك القرى، أي كبيرتها، التي ترجع تلك القرى إليها، ومنها يمتارون، وفيها عظيمهم الحاكم على تلك القرى. {حتى يبعث في أمها رسولاً}، لإلزام الحجة وقطع المعذرة. ويحتمل أن يراد بالقرى: القرى التي في عصر الرسول، فيكون أم القرى: مكة، ويكون الرسول: محمداً صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء، وظلم أهلها: هو بالكفر والمعاصي. {وما أوتيتم من شيء}: أي حسن يسركم وتفخرون به، {فمتاع الحياة الدنيا وزينتها}: تمتعون أياماً قلائل، {وما عند الله}: من النعيم الدائم الباقي المعد للمؤمنين، {خير}. من متاعكم، {أفلا تعقلون}: توبيخ لهم. وقرأ أبو عمرو: يعقلون، بالياء، إعراض عن خطابهم وخطاب لغيرهم، كأنه قال: انظروا إلى هؤلاء وسخافة عقولهم. وقرأ الجمهور: بالتاء من فوق، على خطابهم وتوبيخهم، في كونهم أهملوا العقل في العاقبة. ونسب هذه القراءة أبو علي في الحجة إلى أبي عمرو وحده، وفي التحرير والتحبير بين الياء والتاء، عن أبي عمرو. وقرئ: متاعاً الحياة الدنيا، أي يمتعون متاعاً في الحياة الدنيا، فانتصب الحياة الدنيا على الظرف.
{أفمن وعدناه}: يذكر تفاوت ما بين الرجلين من وعد، {وعداً حسناً}، وهو الثواب، فلاقاه، ومن متع في الحياة الدنيا، ثم أحضر إلى النار. وظاهر الآية العموم في المؤمن والكافر. قيل: ونزلت في الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبي جهل. وقيل: في حمزة وأبي جهل. وقيل: في عليّ وأبي جهل. وقيل: في عمار والوليد بن المغيرة. وقيل: نزلت في المؤمن والكافر، وغلب لفظ المحضر في المحضر إلى النار كقوله: {لكنت من المحضرين} {فكذبوه فإنهم لمحضرون} والفاء في: {أفمن}، للعطف، لما ذكر تفاوت ما بين ما أوتوا من المتاع والزينة، وما عند الله من الثواب، قال: أفبعد هذا التفاوت الظاهر يسوى بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا؟ والفاء في: {فهو لاقيه}، للتسبيب، لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الخبر، وثم للتراخي حال الإحضار عن حال التمتع بتراخي وقته عن وقته. وقرأ طلحة: أمن وعدناه، بغير فاء.


لما ذكر أن الممتعين في الدنيا يحضرون إلى النار، ذكر شيئاً من أحوال يوم القيامة، أي واذكر حالهم يوم يناديهم الله، ونداؤه إياهم يحتمل أن يكون بواسطة وبغير واسطة؛ {فيقول أين شركائي}؟ أي على زعمكم، وهذا الاستفهام على جهة التوبيخ والتقريع؛ والشركاء هم من عبدوه من دون الله، من ملك، أو جنّ، أو إنس، أو كوكب، أو صنم، أو غير ذلك. ومفعولا {تزعمون} محذوفان، أحدهما العائد على الموصول، والتقدير: تزعمونهم شركاء. ولما كان هذا السؤال مسكتاً لهم، إذ تلك الشركاء التي عمدوها مفقودون، هم أوجدوا هم في الآخرة حادوا عن الجواب إلى كلام لا يجدي.
{قال الذين حق عليهم القول}: أي الشياطين، وأئمة الكفر ورؤوسه؛ وحق: أي وجب عليهم القول، أي مقتضاه، وهو قوله: {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} و{هؤلاء}: مبتدأ، و{الذين أغوينا}: هم صفة، و{أغويناهم كما غوينا}: الخبر، و{كما غوينا}: صفة لمطاوع أغويناهم، أي فغووا كما غوينا، أي تسببنا لهم في الغي فقبلوا منا. وهذا الإعراب قاله الزمخشري. وقال أبو عليّ: ولا يجوز هذا الوجه، لأنه ليس في الخبر زيادة على ما في صفة المبتدأ. قال: فإن قلت: قد وصلت بقوله: {كما غوينا}، وفيه زيادة. قيل: الزيادة بالظرف لا تصيره أصلاً في الجملة، لأن الظروف صلات، وقال هو: {الذين أغوينا} هو الخبر، و{أغويناهم}: مستأنف. وقال غير أبي علي: لا يمتنع الوجه الأول، لأن الفضلات في بعض المواضع تلزم، كقولك: زيد عمرو قائم في داره. انتهى. والمعنى: هؤلاء أتباعنا آثروا الكفر على الإيمان، كما آثرناه نحن، ونحن كنا السبب في كفرهم، فقبلوا منا. وقرأ أبان، عن عاصم وبعض الشاميين: كما غوينا، بكسر الواو. قال ابن خالويه: وليس ذلك مختاراً، لأن كلام العرب: غويت من الضلالة، وغويت من البشم. ثم قالوا: {تبرأنا إليك}، منهم ما كانوا يعبدوننا، إنما عبدوا غيرنا، و{إيانا}: مفعول {يعبدون}، لما تقدّم الفصل، وانفصاله لكون يعبدون فاصلة، ولو اتصل، ثم لم يكن فاصلة. وقال الزمخشري: إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم؛ وإخلاء الجملتين من العاطف، لكونهما مقرونين لمعنى الجملة الأولى. انتهى.
{وقيل ادعوا شركاءكم}: لما سئلوا أين شركاؤكم وأجابوا بغير جواب، سئلوا ثانياً فقيل: ادعوا شركاءكم، وأضاف الشركاء إليهم، أي الذين جعلتموهم شركاء لله. وقوله: {ادعوا شركاءكم}، على سبيل التهكم بهم، لأنه يعلم أنه لا فائدة في دعائهم، {فدعوهم}، هذا لسخافة عقولهم في ذلك الموطن أيضاً، إذ لم يعلموا أن من كان موجوداً منهم في ذلك الموطن لا يجيبهم، والضمير في {ورأوا}. قال الضحاك ومقاتل: هو للتابع والمتبوع، وجواب لو محذوف، والظاهر أن يقدر مما يدل عليه مما يليه، أي لو كانوا مؤمنين في الدنيا، ما رأوا العذاب في الآخرة.
وقيل: التقدير: لو كانوا مهتدين بوجه من وجوه الحيل، لدفعوا به العذاب. وقيل: لعلموا أن العذاب حق. وقيل: لتحيروا عند رؤيته من فظاعته، وإن لم يعذبوا به، وقيل: ما كانوا في الدنيا عابدين الأصنام. وقال أبو عبد الله الرازي: وعندي أن الجواب غير محذوف، وفي تقريره وجوه: أحدها: أن الله إذا خاطبهم بقوله: {ادعوا شركاءكم}، اشتدّ خوفهم ولحقهم شيء بحيث لا يبصرون شيئاً، لا جرم ما رأوا العذاب. وثانيها: لما ذكر الشركاء، وهي الأصنام، وأنهم لا يجيبون الذين دعوهم، قال في حقهم: {ورأوا العذاب}، لو كانوا من الأحياء المهتدين، ولكنها ليست كذلك، ولا جرم ما رأت العذاب. والضمير في رأوا، وإن كان للعقلاء، فقد قال: ودعوهم وهم للعقلاء. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقد أثنى على هذا الذي اختاره، وليس بشيء، لأنه بناه على أن الضمير في رأوا عائد على المدعوين، قال: وهم الأصنام. والظاهر أنه عائد على الداعين، كقوله: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين أتبعوا ورأوا العذاب} ولأن حمل مهتدين على الأحياء في غاية البعد، لأن ما قدره هو جواب، ولا يشعر به أنه جواب، إذ صار التقدير عنده: لو كانوا من الأحياء رأوا العذاب، لكنها ليست من الأحياء، فلا ترى العذاب. ألا ترى إلى قوله: فلا جرم ما رأت العذاب؟
{ويوم يناديهم}: هذا النداء أيضاً قد يكون بواسطة من الملائكة، أو بغير واسطة. حكى أولاً ما يوبخهم من اتخاذهم له شركاء، ثم ما يقوله رؤوس الكفر عند توبيخهم، ثم استعانتهم بشركائهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزالة العلل. وقرأ الجمهور: {فعميت} بفتح العين وتخفيف الميم. وقرأ الأعمش، وجناح بن حبيش، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير: بضم العين وتشديد الميم، والمعنى: أظلمت عليهم الأمور، فلم يستطيعوا أن يخبروا بما فيه نجاة لهم، وأتى بلفظ الماضي لتحقق وقوعه. {فهم لا يتساءلون}، وقرأ طلحة: يساءلون، بإدغام التاء في السين: أي لا يسأل بعضهم بعضاً فيما يتحاجون به، إذا أيقنوا أنه لا حجة لهم، فهم في عمى وعجز عن الجواب. والمراد بالنبأ: الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله. ولما ذكر تعالى أحوال الكفار يوم القيامة، وما يكون منهم فيه، أخبر بأن من تاب من الشرك وآمن وعمل صالحاً، فإنه مرجو له الفلاح والفوز في الآخرة، وهذا ترغيب للكافر في الإسلام، وضمان له للفلاح. ويقال: إن عسى من الله واجبة.
{وربك يخلق ما يشاء ويختار}: نزلت بسبب ما تكلمت به قريش من استغراب أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقول بعضهم: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}
وقائل ذلك الوليد بن المغيرة. قال القرطبي: هذا متصل بذكر الشركاء الذين دعوهم واختاروهم للشفاعة، أي الاختيار إلى الله تعالى في الشفعاء، لا إلى المشركين. وقيل: هو جواب لليهود، إذ قالوا: لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل، لأمنا به، ونص الزجاج، وعليّ بن سليمان، والنحاس: على أن الوقف على قوله: {ويختار} تام، والظاهر أن ما نافية، أي ليس لهم الخيرة، إنما هي لله تعالى، كقوله: {ما كان لهم الخيرة} من أمرهم. وذهب الطبري إلى أن ما موصولة منصوبة بيختار، أي ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس، كما لا يختارون هم ما ليس إليهم، ويفعلون ما لم يؤمروا به. وأنكر أن تكون ما نافية، لئلا يكون المعنى: إنه لم تكن لهم الخير فيما مضى، وهي لهم فيما يستقبل، ولأنه لم يتقدّم كلام ينفي. وروي عن ابن عباس معنى ما ذهب إليه الطبري، وقد رد هذا القول تقدّم العائد على الموصول، وأجيب بأن التقدير: ما كان لهم فيه الخيرة، وحذف لدلالة المعنى. قال الزمخشري: كما حذف من قوله: {إن ذلك لمن عزم الأمور} يعني: أن التقدير أن ذلك فيه لمن عزم الأمور. وأنشد القاسم ابن معن بيت عنترة:
أمن سمية دمع العين تذريف *** لو كان ذا منك قبل اليوم معروف
وقرن الآية بهذا البيت. والرواية في البيت: لو أن ذا، ولكن على ما رواه القاسم يتجه في بيت عنترة أن يكون في كان ضمير الشأن. فأما في الآية، فقال ابن عطية: تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف. قال ابن عطية: ويتجه عندي أن تكون ما مفعولة، إذا قدرنا كان تامة، أي أن الله تعالى يختار كل كائن، ولا يكون شيء إلا بإذنه. وقوله: {لهم الخيرة}: جملة مستأنفة معناها: تعديد النعمة عليهم في اختيار الله لهم، لو قبلوا وفهموا. انتهى. يعني: والله أعلم خيرة الله لهم، أي لمصلحتهم. والخيرة من التخير، كالطيرة من التطير، يستعملان بمعنى المصدر؛ والجمل التي بعد هذا تقدم الكلام عليها. والحمد في الآخرة قولهم: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} {الحمد لله الذي صدقنا وعده} {الحمد لله رب العالمين} والتحميد هنالك على سبيل اللذة، لا التكليف. وفي الحديث: «يلهمون التسبيح والتقديس» وقرأ ابن محيصن: ما تكن، بفتح التاء وضم الكاف.
{وله الحكم}: أي القضاء بين عباده والفصل. و{أرأيتم}: بمعنى أخبروني، وقد يسلط على الليل {أرأيتم} و{جعل}، إذ كل منهما يقتضيه، فأعمل الثاني. وجملة أرأيتم الثانية هي جملة الاستفهام، والعائد على الليل محذوف تقديره: من إله غير الله يأتيكم بضياء بعده، ولا يلزم في باب التنازع أن يستوي المتنازعان في جهة التعدي مطلقاً، بل قد يختلف الطلب، فيطلبه هذا على جهة الفاعلية، وهذا على جهة المفعولية، وهذا على جهة المفعول، وهذا على جهة الظرف.
وكذلك أرأيتم ثاني مفعولية جملة استفهامية غالباً، وثاني جعل إن كانت بمعنى صير لا يكون استفهاماً، وإن كانت بمعنى خلق وأوجد وانتصب ما بعد مفعولها، كان ذلك المنتصب حالاً. و{سرمداً}، قيل: من السرمد، فميمه زائدة، ووزنه فعمل، ولا يزاد وسطاً ولا آخراً بقياس، وإنما هي ألفاظ تحفظ مذكورة في علم التصريف. وأتى {بضياء}، وهو نور الشمس، ولم يجئ التركيب بنهار يتصرفون فيه، كما جاء {بليل تسكنون فيه}، لأن منافع الضياء متكاثرة، ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء. {أفلا تسمعون}؟ لأن السمع يدرك ما يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل. {أفلا تبصرون}؟ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه، قال الزمخشري. و{من رحمته}، من هنا للسبب، أي وبسبب رحمته إياكم، {جعل لكم الليل والنهار}، ثم علل جعل كل واحد منهما، فبدأ بعلة الأول، وهو الليل، وهو: {لتسكنوا فيه}، ثم بعلة الثاني وهو: {ولتبتغوا من فضله}، ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو: {لعلكم تشكرون}، أي هذه الرحمة والنعمة. وهذا النوع من علم البديع يسمى التفسير، وهو أن تذكر أشياء ثم تفسرها بما يناسبها، ومنه قول ابن جيوش:
ومقرطق يغني النديم بوجهه *** عن كأسه الملأى وعن إبريقه
فعل المدام ولونها ومذاقها *** في مقلتيه ووجنتيه وريقه
والضمير في {فيه} عائد على الليل، وفي {فضله} يجوز أن يكون عائداً على الله، والتقدير: من فضله، أي من فضل الله فيه، أي في النهار؛ وحذف لدلالة المعنى، ولدلالة لفظ فيه السابق عليه. ويحتمل أن يعود على النهار، أي من فضل النهار، ويكون أضافه إلى ضمير النهار على سبيل المجاز. لما كان الفضل حاصلاً فيه، أضيف إليه، كقوله: {بل مكر الليل والنهار}


تقدم الكلام على قوله: {ويوم يناديهم}: وكرر هنا على جهة الإبلاغ والتأكيد. {ونزعنا}: أي ميزنا وأخرجنا بسرعة من كل أمة من الأمم. {شهيداً}: وهو نبي تلك الأمة، لأنه هو الشهيد عليها، كما قال: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟ وقيل: عدولاً وخياراً. والشهيد على هذا اسم الجنس، والشهيد يشهد على تلك الأمّة بما صدر منها، وما أجابت به لما دعيت إلى التوحيد، وأنه قد بلغهم رسالة ربهم. {فقلنا}: أي للملأ، {هاتوا برهانكم}: أي حجتكم فيما كنتم عليه في الدنيا من الكفر ومخالفة هذا الشهيد، {فعلموا أن الحق لله}، لا لأصنامهم وما عبدوا من دون الله. {وضل عنهم}: أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع، {ما كانوا يفترون} من الكذب والباطل.
وقارون أعجمي: منع الصرف للعجمة والعلمية. وقيل: ومعنى كان من قومه: أي ممن آمن به. قال ابن عطية: وهو إسرائيلي بإجماع. انتهى. واختلف في قرابته من موسى عليه السلام، إختلافاً مضطرباً متكاذباً، وأولاها: ما قاله ابن عباس أنه ابن عمه، وهو قارون ابن يصهر بن قاهث، جد موسى، لأن النسابين ذكروا نسبة كذلك، وكان يسمى المنور لحسن صورته، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم، فنافق كما نافق السامري. {فبغى عليهم}: ذكروا من أنواع بغيه الكفر والكبر، وحسده لموسى على النبوة، ولهارون على الذبح والقربان، وظلمه لبني إسرائيل حين ملكه فرعون عليهم، ودسه بغياً تكذب على موسى أنه تعرض لها، وتفضحه بذلك في ملأ من بني إسرائيل، ومن تكبره أن زاد في ثيابه شبراً. {وآتيناه من الكنوز}، قيل: أظفره الله بكنز من كنوز يوسف عليه السلام. وقيل: سميت أمواله كنوزاً، إذ كان ممتنعاً من أداء الزكاة، وبسبب ذلك عادى موسى عليه السلام أول عداوته. وما موصوله، صلتها إن ومعمولاها. وقال النحاس: سمعت علي بن سليمان، يعني الأخفش الصغير، يقول: ما أقبح ما يقوله الكوفيون في الصلات، أنه لا يجوز أن تكون صلة الذي إن وما عملت فيه، وفي القرآن: {ما إن مفاتحه}. انتهى. وتقدم الكلام في مفاتح في سورة الأنعام، وقالوا هنا: مقاليد خزائنه. وقال السدي: هي الخزائن نفسها. وقال الضحاك: ظروفه وأوعيته. وقرأ الأعمش: مفاتيحه، بياء، جمع مفتاح، وذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب، أو يقارب الكذب، فلم أكتبه. قال أبو زيد: نؤت بالعمل إذا نهضت به. قال الشاعر:
إذا وجدنا خلفاً بئس الخلف *** عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف
ويقول: ناء ينوء، إذا نهض بثقل. قال الشاعر:
تنوء بأحراها فلأياً قيامها *** وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر
وقال أبو عبيدة: هو مقلوب وأصله: لتنوء بها العصبة، أي تنهض، والقلب عند أصحابنا بابه الشعر.
والصحيح أن الباء للتعدية، أي لتنيء العصبة، كما تقول: ذهبت به وأذهبته، وجئت به وأجأته. ونقل هذا عن الخليل وسيبويه والفراء، واختاره النحاس، وروي معناه عن ابن عباس وأبي صالح والسدي، وتقول العرب: ناء الحمل بالبعير إذا أثقله. قال ابن عطية: ويمكن أن يسند تنوء إلى المفاتح، لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض بها، وذا مطرد في ناء الحمل بالبعير ونحوه، فتأمله. وقرأ بديل بن ميسرة: لينوء، بالياء، وتذكيره راعى المضاف المحذوف، التقدير: ما إن حمل مفاتحه، أو مقدارها، أو نحو ذلك. وقال الزمخشري: ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن، ويعطيها حكم ما أضيف إليه للملابسة والإيصال، كقوله: ذهبت أهل اليمامة. انتهى. يعني: أنه اكتسب المفاتح التذكير من الضمير الذي لقارون، كما اكتسب أهل التأنيث من إضافته إلى اليمامة، فقيل فيه، ذهبت. وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ: ما إن مفتاحه، على الإفراد، فلا تحتاج قراءته لينوء بالياء إلى تأويل. وتقدم تفسير العصبة في سورة يوسف عليه السلام. وتقدم قبل تفسير المفاتح، أهي المقاليد، أو الخزائن نفسها، أو الظروف والأوعية؟ وعن ابن عباس والحسن: أن المفاتح هي الأموال.
قال ابن عباس: كانت خزائنه تحملها أربعون أقوياء، وكانت أربعمائة ألف، يحمل كل رجل عشرة آلاف. وقال أبو مسلم: المراد من المفاتح: العلم والإحاطة، كقوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب} والمراد: وآتيناه من الكنوز، ما إن حفظها والإطلاع عليها ليثقل على العصبة، أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها، يتعب حفظها القائمين على حفظها. {إذ قال له قومه لا تفرح}: نهوه عن الفرح المطغى الذي هو إنهماك وإنحلال نفس وأشر وإعجاب، وإنما يفرح بإقبال الدنيا عليه من اطمأن إليها وغفل عن أمر الآخرة، ومن جعل أنه مفارق زهرة الدنيا عن قريب، فلا يفرح بها. وقال أبو الطيب:
أشد الغم عندي في سرور *** تيقن عنه صاحبه انتقالا
قال الزمخشري: ومحل إذ منصوب بتنوء. انتهى، وهذا ضعيف جداً، لأن إثقال المفاتح العصبة ليس مقيداً بوقت قول قومه له: {لا تفرح}. وقال ابن عطية: متعلق بقوله: {فبغى عليهم}، وهو ضعيف أيضاً، لأن بغيه عليهم لم يكن مقيداً بذلك الوقت. وقال الحوفي: الناصب له محذوف تقديره أذكر. وقال أبو البقاء: {إذ قال له} ظرف لآتيناه، وهو ضعيف أيضاً، لأن الإيتاء لم يكن وقت ذلك القول. وقال أيضاً: ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف دل عليه الكلام، أي بغى عليهم، {إذ قال له قومه}. انتهى. ويظهر أن يكون تقديره: فأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز، {إذ قال له قومه}. وقال تعالى: {ولا تفرحوا بما آتاكم} والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير. وقال الشاعر:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني *** ولا جازع من صرفه المتحول
وقال الآخر:
إن تلاق منفساً لا تلقنا *** فرح الخير ولا نكبوا الضر
وقرئ: الفارحين، حكاه عيسى بن سليمان الحجازى. و{لا يحب}: صفة فعل، لا صفة ذات، بمعنى الإرادة، لأن الفرح أمر قد وقع، فالمعنى: لا يظهر عليهم بركته، ولا يعمهم رحمته. ولما نهوه عن الفرح المطغى، أمروه بأن يطلب، فيما آتاه الله من الكنوز وسعة الرزق، ثواب الدار الآخرة، بأن يفعل فيه أفعال البر، وتجعله زادك إلى الآخرة. {ولا تنسى نصيبك من الدنيا}، قال ابن عباس، والجمهور: معناه: ولا تضيع عمرك في أن لا تعمل صالحاً في دنياك، إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها، وهذا التأويل فيه عظة. وقال الحسن، وقتادة: معناه: لا تضيع حظك من الدنيا في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ونظرك لعاقبة دنياك، وفي هذا التأويل بعض رفق. وقال الحسن: معناه: قدم الفضل وأمسك ما تبلغ به. وقال مالك: هو الأكل والشرب بلا سرف. وقيل: أرادوا بنصيبه الكفن، وهذا وعظ متصل، كأنهم قالوا: تترك جميع مالك، لا يكون نصيبك منه إلا الكفن؛ كما قال الشاعر:
نصيبك مما تجمع الدهر كله *** رداءان تأوي فيهما وحنوط
وقال الزمخشري: أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك، وهذا قريب من قول الحسن: {وأحسن} إلى عباد الله، أو بشكرك وطاعتك لله. {كما أحسن الله إليك} بتلك النعم التي خولكها، والكاف للتشبيه، وهو يكون في بعض الأوصاف، لأن مماثلة إحسان العبد لإحسان الله من جميع الصفات يمتنع أن تكون، فالتشبيه وقع في مطلق الإحسان، أو تكون الكاف للتعليل، أي أحسن لأجل إحسان الله إليك. {ولا تبغ الفساد}: أي ما أنت عليه من البغي والظلم. {على علم}، علم: مصدر، يحتمل أن يكون مضافاً إليه ومضافاً إلى الله. فقال الجمهور: ادّعى أن عنده علماً استوجب به أن يكون صاحب تلك الكنوز. فقيل: علم التوراة وحفظها، وكان أحد السبعين الذين اختارهم موسى للميقات، وكانت هذه مغالطة. وقال أبو سليمان الداني: أي علم التجارة ووجوه المكاسب، أي أوتيته بإدراكي وسعيي. وقال ابن المسيب: علم الكيمياء، قال ابن المسيب: وكان موسى عليه السلام يعلم الكيمياء، وهي جعل الرصاص والنحاس ذهباً. وعن ابن عباس: على علم الصنعة الذهب، ولعل ذلك لا يصح عنه ولا عن ابن المسيب. وأنكر الزجاج علم الكيمياء وقال: باطل لا حقيقة له. انتهى.
وكثيراً ما تولع أهل مصر بطلب أشياء من المستحيلات والخرافات؛ من ذلك: تغوير الماء، وخدمة الصور الممثلة في الجدر خطوطاً، وادعائهم أن تلك الخطوط تتحرك إذا خدمت بأنواع من الخدم لهم، والكيمياء؛ حتى أن مشايخ العلم عندهم، الذين هم عندهم بصورة الولاية، يتطلب ذلك من أجهل وارد من المغاربة.
وقال ابن زيد وغيره: أراد: {أوتيته على علم} من الله وتخصيص من لدنه قصدني به، أي فلا يلزمني فيه شيء مما قلتم، ثم جعل قوله: {عندي}، كما يقول: في معتقدي وعلى ما أراه. وقال مقاتل: {على علم}، أي على خير علمه الله عندي. والظاهر أن قوله: {أو لم يعلم}، تقرير لعلمه ذلك، وتنبيه على خطئه في اغتراره؛ أي قد علم أن الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى، لأنه قد قرأه في التوراة، وأخبر به موسى، وسمعه في التواريخ، كأنه قيل: أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم؟ هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون نعتاً لعلمه بذلك، لأنه لما قال: {أوتيته على علم عندي}، فتنفح بالعلم وتعظم به، قيل: أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه؟ وأرى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي نفسه مصارع الهالكين. انتهى. {وأكثر جمعاً}، إما للمال، أو جماعة يحوطونه ويخدمونه. قال ابن عطية: {أو لم يعلم}، يرجح أن قارون تشبع بعلم نفسه على زعمه.
وقرأ الجمهور: {ولا يسأل}، مبنياً للمفعول و{المجرمون}: رفع به، وهو متصل بما قبله، قاله محمد بن كعب. والضمير في {ذنوبهم} عائد على من أهلك من القرون، أي لا يسأل غيرهم ممن أجرم، ولا ممن لم يجرم، عمن أهلكه الله، بل: {كل نفس بما كسبت رهينة} وقيل: أهلك من أهلك من القرون، عن علم منه بذنوبهم، فلم يحتج إلى مسألتهم عنها. وقيل: هو مستأنف عن حال يوم القيامة. قال قتادة: لا يسألون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها، لأنهم يدخلون النار بغير حساب. وقال قتادة أيضاً، ومجاهد: لا تسألهم الملائكة عن ذنوبهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم من السواد والتشويه، كقوله: {يعرف المجرمون بسيماهم} وقيل: لا يسألون سؤال توبيخ وتفريع. وقرأ أبو جعفر في روايته: ولا تسأل، بالتاء والجزم، المجرمين: نصب. وقرأ ابن سيرين، وأبو العالية: كذلك في ولا تسأل على النهي للمخاطب، وكان ابن أبي إسحاق لا يجوّز ذلك إلاّ أن يكون المجرمين بالياء في محل النصب، بوقوع الفعل عليه. قال صاحب اللوامح: فالظاهر ما قاله، ولم يبلغني في نصب المجرمين شيء، فإن تركاه على رفعه، فله وجهان: أحدهما: أن تكون الهاء والميم في {عن ذنوبهم} راجعة إلى ما تقدم من القرون، وارتفاع المجرمين بإضمار المبتدأ، وتقديره: هم المجرمون، أو أولئك المجرمون، ومثله {التائبون العابدون} في التوبة. والثاني: أن يكون بدلاً من أصل الهاء والميم في ذنوبهم، لأنها، وإن كانت في محل الجر بالإضافة إليها، فإن أصلها الرفع، لأن الإضافة إليها بمنزلة إضافة المصدر إلى اسم الفاعل؛ فعلى ذلك المجرمون محمول على الأصل، على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ: {أن يضرب مثلاً مّا بعوضة} بالجر، على أنها بدل من أصل المثل، وما زائدة فيه، وتقديره: لا يستحي بضرب مثل بعوضة، أي بضرب بعوضة. في ذلك فسر أن مع الفصل بالمصدر ناصب إلى المفعول به، ثم أبدل منه البعوضة من غير أن أعرف فيها أثراً لحال. فأما قوله: من ذنوبهم، فذنوب جمع، فإن كان جمع مصدر، ففي إعماله خلاف. وأما قوله على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ، فقد ذكر في البقرة أنه سمع ذلك، ولا تعرف فيها أثراً، فينبغي أن لا يجعلها قراءة.
ولما ذكر تعالى قارون ونعته، وما آتاه من الكنوز، وفرحه بذلك فرح البطرين، وادعاءه أن ما أوتي من ذلك إنما أوتيه على علم، ذكر ما هو ناشئ عن التكبر والسرور بما أوتي فقال: {فخرج على قومه في زينته}، وكان يوم السبت: أي أظهر ما يقدر عليه من الملابس والمراكب وزينة الدنيا. قال جابر، ومجاهد: في ثياب حمر. وقال ابن زيد: هو وحشمه في ثياب معصفرة. وقيل: في ثياب الأرجوان. وقيل: على بغلة شهباء عليها الأرجوان، وعليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف على زيه. وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعلى يمينه ثلاثمائة غلام، وعلى يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهم الحلى والديباج. وقيل: في تسعين ألفاً عليهم المعصفرات، وهو أول يوم رؤي فيه المعصفر. وقيل غير ذلك من الكيفيات.
{قال الذين يريدون الحياة الدنيا} قيل: كانوا مؤمنين. وقال قتادة: تمنوه ليتقربوا به إلى الله. وقيل: رغبة في اليسارة والثروة. وقيل: كانوا كفارة، وتمنوا {مثل ما أوتي قارون}، ولم يذكروا زوال نعمته، وهذا من الغبطة. {إنه لذو حظ عظيم}: أي درجة عظيمة، قاله الضحاك. وقيل: نصيب كثير من الدنيا والحظ البخت والسعد، يقال: فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ. {وقال الذين أوتوا العلم}، منهم: يوشع، والعلم: معرفة الثواب والعقاب، أو التوكل، أو الإخبار، أقوال. {ويلكم}: دعاء بالشر. {ثواب الله}: وهو ما أعده في الآخرة للمؤمن {خير} مما أوتي قارون. {ولا يلقاها}: أي هذه الحكمة، وهي معرفة ثواب الله، وقيل: الجنة ونعيمها. وقيل: هذه المقالة، وهي قولهم: {ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً}، وبخهم بها. {إلا الصابرون} على الطاعات وعلى قمع أنفسهم عن الشهوات.
تقدم طرف من خبر قارون وحسده لموسى. ومن حسده أنه جعل لبغي جعلاً، على أن ترمي موسى بطلبها وبزنائها، وأنها تابت إلى الله، وأقرت أن قارون هو الذي جعل لها جعلاً على رمي موسى بذلك، فأمر الله الأرض أن تطيعه، فقال: يا أرض خذيه وأتباعه، فخسف بهم في حكاية طويلة، الله أعلم بها. ولما خسف بقارون ومن معه، فقال بنو إسرائيل: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله.
ومن زائدة، أي من جماعة تفيد استغراق الفئات. وإذا انتفت الجملة، ولم يقدر على نصره، فانتفاء الواحد عن نصرته أبلغ. {وما كان من المنتصرين}: أي لم يكن في نفسه ممن يمتنع من عذاب الله.
{وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس}: بدل، وأصبح، إذا حمل على ظاهره، أن الخسف به وبداره كان ليلاً، وهو أفظع العذاب، إذ الليل مقر الراحة والسكون، والأمس يحتمل أن يراد به الزمان الماضي، ويحتمل أن يراد به ما قبل يوم الخسف، وهو يوم التمني، ويدل عليه العطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في قوله: {فخسفنا}، فيكون فيه اعتقاب العذاب خروجه في زينته، وفي ذلك تعجيل العذاب. ومكانه: منزلته في الدنيا من الثروة والحشم والأتباع. و: وي، عند الخليل وسيبويه: اسم فعل مثل: صه ومه، ومعناها: أعجب. قال الخليل: وذلك أن القوم ندموا فقالوا: متندمين على ما سلف منهم: وي، وكل من ندم فأظهر ندامته قال: وي. وكأن: هي كاف التشبيه الداخلة على أن، وكتبت متصلة بكاف التشبيه لكثرة الاستعمال، وأنشد سيبويه:
وي كأن من يكن له نشب يح *** سبب ومن يفتقر يعش عيش ضر
والبيت لزيد بن عمرو بن نفيل. وحكى الفراء أن امرأة قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت، وعلى هذا المذهب يكون الوقف على وي. وقال الأخفش: هي ويك، وينبغي أن تكون الكاف حرف خطاب، ولا موضع له من الإعراب، والوقف عليه ويك، ومنه قول عنترة:
ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها *** قيل الفوارس ويك عنتر اقدم
قال الأخفش: وأن عنده مفتوح بتقدير العلم، أي أعلم أن الله، وقال الشاعر:
ألا ويك المضرة لا تدوم *** ولا يبقى على البؤس النعيم
وذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم وغيرهم إلى أن أصله ويلك، فحذفت اللام والكاف في موضع جر بالإضافة. فعلى المذهب الأول قيل: تكون الكاف خالية من معنى التشبيه، كما قيل: {ليس كمثله شيء} وعلى المذهب الثاني، فالمعنى: أعجب لأن الله. وعلى المذهب الثالث تكون ويلك كلمة تحزن، والمعنى أيضاً: لأن الله. وقال أبو زيد وفرقة معه: ويكأن، حرف واحد بجملته، وهو بمعنى: ألم تر. وبمعنى: ألم تر، قال ابن عباس والكسائي وأبو عبيد. وقال الفراء: ويك، في كلام العرب، كقوله الرجل: أما ترى إلى صنع الله؟ وقال ابن قتيبة، عن بعض أهل العلم أنه قال: معنى ويك: رحمة لك، بلغة حمير.
ولما صدر منهم تمني حال قارون، وشاهدوا الخسف، كان ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا، وداعياً إلى الرضا بقدر الله، فتنبهوا لخطئهم فقالوا: وي، ثم قالوا: {كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده}، بحسب مشيئته وحكمته، لا لكرامته عليه، ويضيق على من يشاء، لا لهوانه، بل لحكمته وقضائه ابتلاء. وقرأ الأعمش: لولا منّ الله، بحذف أن، وهي مزادة. وروي عنه: منّ الله، برفع النون والإضافة. وقرأ الجمهور: لخسف مبنياً للمفعول؛ وحفص، وعصمة، وأبان عن عاصم، وابن أبي حماد عن أبي بكر: مبنياً للفاعل؛ وابن مسعود، وطلحة، والأعمش: لا نخسف بنا، كقولك: انقطع بنا، كأنه فعل مطاوع، والمقام مقام الفاعل هو {بنا}. ويجوز أن يكون المصدر: أي لا نخسف الانخساف، ومطاوع فعل لا يتعدى إلى مفعول به، فلذلك بني إما لبنا وإما للمصدر. وعن ابن مسعود أيضاً: لتخسف، بتاء وشد السين، مبنياً للمفعول.

1 | 2 | 3 | 4 | 5